القانون الجنائي الجزء الخامس
أركان العامة للجريمة:
المبحث الأول: الركن القانوني.
أولا:
الدلالة
إن
الوجود القانوني للجريمة يتطلب أولا تدخل المشرع ليحدد السلوك الذي يجرم ويعاقب
عليه، وبالتالي فلا بد أن يطابق السلوك المرتكب فعلا السلوك المحدد بشكل مجرد في
النموذج القانوني ، ولابد أيضا أن يحدد المشرع الجزاء المقرر لذلك ، والجزاء
الجنائي يتكون من عقوبات وتدابير قانونية ، ويترتب عن ذلك :
- حصر
مصادر التجريم والجزاء الجنائي في مصدر واحد هو التشريع دون غيره من نصادر
القانون، فالقانون يأخذ في هذا المجال مفهوما ضيقا و شكليا يقصد به القانون الصادر
عن السلطة التشريعية في الدولة طبقا لقواعدها الدستورية , و هي في الوضع العادي
البرلمان في الأنظمة البرلمانية .
- حصر الوضعيات
المجرمة و الجزاء المقرر لها , و لمعرفتها يتعين الرجوع إلى النصوص التشريعية
النافذة وقت ارتكاب السلوك , و هكذا فالتجريم يعد استثناءا من قاعدة الأصل في
الأفعال الإباحة . إن السلوك مهما كان ضارا بالمجتمع, لا يمكن إخضاعه لجزاء جنائي
ما لم يتدخل القانون ليجرمه و هذا السبب اعتبر القانون عنصرا أساسيا في الجريمة و
يعبر عادة عن هذه الضرورة بمبدأ شرعية التجريم و العقاب أو مبدأ لا جريمة ولا
عقوبة إلا بنص لذلك يمكن دراسة الركن القانوني للجريمة انطلاقا من أصله التاريخي مبدأ
شرعية التجريم والجزاء فهو تجسيد وترجمة لهذا المبدأ.
1) الأصل التاريخي لمبدأ شرعية التجريم و العقاب
وانتشاره :
يجب ملاحظة أن الشريعة الإسلامية سبق لها أن
تضمنت هذا المبدأ, وعرفت تطبيقاته في مجال الحدود والقصاص و الديات و
التعازير فهناك نصوص صريحة من القران من ذلك قوله تعالى :"وما
كنا معذبين حتى نبعت رسول ", ونصوص صريحة في السنة , كما أن هذا المبدأ سبق
أن عرف تطبيقات في التشريعات القديمة جدا نذكر قانون حمو رابي 1762 قبل الميلاد
(المحاضرة), لكن ازدهاره وانتشاره في القوانين الوضعية رجع الفضل فيه للنهضة
الفكرية التي عرفها ق 18 بأوربا، وخاصة في إطار الاهتمام بعناية المواطن من تعسف
القضاء، ومن المنادين به في هذا الإطار الفكري نذكر خاصة "بيكاريا" في
كتابة "الجرائم والعقوبات" حيث طالب بضرورة جعل التجريم والعقاب بيد
المشرع ممثل الإدارة العامة ليحدد ذلك بشكل مسبق منعا لتعسف القضاء وتأكيدا لمبدأ
فصل السلط، وقد تبنت الثورة الفرنسية هذا المبدأ ووقع النص عليه في إعلان حقوق الإنسان والمواطن سنه
1789 في الفصل 8 : " لا يجوز عقاب أي شخص إلا بمقتضى قانون يصدر سابقا على
ارتكاب الجريمة" ثم نص عليه القانون الجنائي الفرنسي لسنة 1791 ثم ق. ج
الفرنسي ل 1810 في فصله الرابع وتصمنه ق . ج الفرنسي الحالي 2- 111 مع ملاحظة أن
القانون يختص بالجنايات والجنح دون المخالفات فهي تدخل في السلطة التنظيمية طبقا
للدستور الفرنسي، ثم انتقل إلى تشريعات دول أخرى وبعض الدساتير.
2) عالمية مبدأ شرعية التجريم والعقاب:
بالنظر إلى أهمية مبدأ شرعية التجريم والعقاب إذ
يشكل ضمانة أساسية للحرية الفردية بوضعه حدا فاصلا بين المجرم والمباح بشكل مسبق
ومكتوب، ورسم الأساس القانوني للعقوبة الحاصلة وبالتالي حمايته من تعسف القضاء
والسلطة التنفيذية ، يضاف إلى ذلك تحقيقه المساواة بين الأفراد أمام سلطة العقاب
مما يحقق الاطمئنان والأمن القانوني، تلك النتائج وغيرها جعلت من هذا المبدأ عالميا
إذ نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المعتمد سنة 1948 في فصله 11.فقرة II (لا يدان أي
شخص بجريمة بسبب أي عمل أو امتناع عن عمل لم يكن في حينه يشكل جرما بمقتض القانون
الوطني أو الدولي كما لا توقع عليه أيه عقوبة أشد من تلك التي كانت سارية في الوقت
الذي ارتكب الفعل الجرمي) كما نص أيضا الفصل 15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق
المدينة والسياسية والذي صادق عليه المغرب.
3) مبدأ
شرعية التجريم و العقاب بالمغرب :
يأخذ
المغرب بهذا المبدأ بعد تطور و بصياغات مختلفة و أحيانا ضمنية , فقد نص عليه الفصل
7 من القانون الجنائي الصادر1953 , كأول قانون جنائي للمغاربة في منطقة الحماية
الفرنسية , إذ جاء فيه :"لا يمكن أن يحكم بأية
عقوبة إلا من اجل جريمة نص عليها القانون , و على عقوبتها و ارتكبت يعد نشر هذا القانون
ما لم يقع نص على خلاف ذلك
وهي
صياغة تضمنت إمكانية الاستثناء وقد وقع استعمال هذا الاستثناء في قانون العدل
العسكري 1956 وقضية الزيوت المسمومة سنة 59 ثم الفصل 10 من القانون الأساسي
للمملكة بتاريخ ، 2 يونيو "لا جريمة ولا عقوبة إلا بمقتضى القانون".
إلى أن
نص عليه الفصل 3 من المجموعة الجنائية الحالية يشكل واضح ودون استثناء بقوله :"لا
يسوغ مؤاخذة احد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون, ولا معاقبته بعقوبات لم
يقررها القانون "
ثم دخل
إلى الدساتير 10 من الدستور 1962 وتكرر ذلك في الدساتير اللاحقة, و الفصل 10 من
الدستور الحالي جاء فيه :"لا يلقى القبض على احد ولا يعتقل ولا يعاقب إلا في الأحوال
وحسب الإجراءات المنصوص عليها في القانون ",ورغم أن النص الدستوري لم يتضمن
صراحة انه لا جريمة إلا بمقتضى القانون ,فان العقوبة شيء ملازم للجريمة ،يضاف إلى
ذلك انه يتعين تكملة الفصل السابق بالفصل 46 من الدستور الذي جعل القانون بمفهومه
الضيق الشكلي أي التشريع هو الذي يختص
بالجرائم والعقوبات الجارية عليها , ومع ذلك يجب ملاحظة أن النصوص الدستورية
لا تتحدث عن التدابير الوقائية بالرغم من ضرورة شرعيتها أيضا.
و هكذا
يأخذ مبدأ شرعية التجريم والعقاب قيمة دستورية مما يشكل ضمانة أساسية للحريات
الفردية.
- ثانيا : نطاق مبدأ شرعية التجريم والجزاء
الجنائي
لقد كان
المبدأ في أصله يهم التجريم و العقاب لذلك فان صياغته الشائعة هي مبدأ شرعية التجريم
والعقاب لكن مع تطور الجزاء الجنائي بضمه تدابير الوقاية أيضا فان نطاق المبدأ توسع
ليشمل هذه التدابير أيضا.
أ-
شرعية التجريم : ويقصد بذلك
أن لا جريمة إلا بمقتضى قانون و هو ما نص عليه الفصل 1 من المجموعة الجنائية و ما
نص عليه الدستور في الفصل 46 عند تحديده صلاحيات البرلمان.
و يترتب
عن ذلك أن السلوك مهما كان ضارا بالمجتمع أو مخالفا لقيمه و نظمه لا يعد جريمة ولا
يملك القاضي تجريمه أو السلطة التنفيذية بل يجب أن يتدخل المشرع بنص تشريعي يجرمه،
هذا ويشكل نطاقه في المغرب جميع الجرائم أيا كانت درجة جسامتها جنايات و جنح
ومخالفات عكسه في فرنسا دون مخالفات.
ب- شرعية العقاب: وهو الشق
الثابت من المبدأ السابق و يعني أن لا عقاب إلا بمقتضى القانون , فالمشرع أيضا هو
الذي له تحديد العقوبة المترتبة عن ارتكاب جريمة نوعا و مقدارا ولا يجوز للقاضي أو
للسلطة التنفيذية أن يضع عقوبة لم ينص عليها القانون مع ملاحظة ما له من صلاحية تقرير العقوبة وفق الضوابط المحددة
قانونيا
ومعلوم
أن تقرير عقوبة عن ارتكاب سلوك معين يفيد ضمنيا أن ذلك السلوك اعتبره القانون
جريمة.
و
القاعدة أن يحدد العقاب في نفس نص التجريم لكن نلاحظ كثيرا ما يلجأ المشرع إلى
تقنية الإحالة
وهكذا فان مبدأ
شرعية التجريم والعقاب كما تصوره بيكاريا و أخذت به الثورة الفرنسية و تشريعات
جنائية لاحقة سيما القانون الجنائي الفرنسي في القرن 19 إنما جاء لحماية المواطن
من التعسف لذلك فوظيفته الأساسية لم تكن مكافحة الجريمة بقدر ما هو تحديد الجرائم
و عقوبتها بدليل أن هذا التحديد تم في أصله بطريقة جامدة لا تراعي شخصية الجنائي
بهدف المساواة أمام القانون الجنائي ليعرف هذا التحديد فيما بعد مرونة من مظاهرها تحديد
العقوبات ضمن حدادته وأفقه وترك الأمر للقاضي ليحدد العقوبة المناسبة بالنظر لظروف
الجريمة و المجرم مما عرف بتفريد الجزاء.
ج- شرعية
التدابير الوقائية: لقد ظهرت تدابير الوقاية كجزاء جنائي بفضل المدرسة الوضعية وقد
عرفت انتشارا في التشريعات خاصة في القرن 20, ووقع تمديد الشرعية إلى هذه التدابير
أيضا من باب حماية الفرد بفرض ضمانات قانونية وقضائية لهذه التدابير بدل تركها
لجهة أمنية, كما جاء في الفصل 1 من المجموعة الجنائية حيث أخذ بها المغرب لأول مرة
كما نص الفصل 8 منها : " لا يجوز الحكم بأي تدبير وقائي إلا في الأحوال وطبق
الشروط المقررة في القانون" ومع ذلك نلاحظ أن هذا الشق لا يتضمنه الدستور.
وهكذا
يمكن إعادة صياغة مبدأ الشرعية بالنظر لتوسع نطاقه كما يلي: " لا جريمة ولا جزاء جنائي إلا
بقانون" ومن المنطق أن يشمل هذا المبدأ الأحكام العامة للقانون الجنائي لأنها
مرتبطة بالجرائم والعقوبات.
بل أن
الشرعية الجنائية يتوسع نطاقها في المحال الجنائي من باب الضمانات المقررة حماية للحقوق والحريات، نذكر خاصة شرعية
الإجراءات التي تنال من هذه الحقوق والحريات في مجال البحث والتحقيق ما تضمنه
قانون المسطرة الجنائية (الحراسة النظرية – الاعتقال- التفتيش- التنصت....)
ثالثا:تطور
مبدأ شرعية التجريم و الجزاء الجنائي :
لقد
عرف هذا المبدأ تطورا كبيرا ينعدم عن تصوره الأصلي و خاصة من أجل تجاوز سلبياته
المتمثلة أساسا في جموده و قصوره عن حماية المجتمع فهو تطور اقتضته مستجدات الحياة
الاجتماعية و تطور الإجرام .
تطور
لعلاج جمود التجريم: لقد انتقد مبدأ شرعية التجريم من زاوية جمود التشريع و
بالتالي ضعف الحماية التي يوفرها للمجتمع ما دام لا يمكن المعاقبة عن فعل ضار
بالمجتمع لم يجرم مسبقا , و يصعب على المشرع
توقعه عند سن التشريع .
فقد
عالجت التشريعات الجنائية هذا الجمود بعدة وسائل منها:
- اعتماد
صياغة مرنة للنص التجريمي و ترك تحديد مضمونها إلى القاضي بحسب المستجدات , لكن
هذا الأسلوب منتقد من زاوية خطورته على حرية المواطنين باستغلال التحديد المرن
والفضفاض للجرائم عند التطبيق فيتوسع نطاقها حسب الظروف.
- اعتراف
التشريع الجنائي بالأعراف في تحديد مضمون و نطاق القاعدة التجريمية وذلك باستعمال المشرع عبارات لا يمكن تحديدها دون الرجوع إلى العرف السائد وقت
تطبيقه , من ذلك تحديد مضمون جريمة الإخلال بالحياء.
بل إن
مخالفة أعراف مهنية أو تجارية بهدف تغليط المتعاقد في جوهر و كمية الشيء تقوم مع جريمة
الغش حسب الفصل 1 من زجر الغش .
-اعتراف
التشريع الجنائي بالقواعد القانونية غير الجنائية لتكمله :
وذلك
لأن يحيل عليها صراحة أو ضمنيا من نص مفهوم ملكية الشيء المسروق في جريمة
السرقة.الزوجية في جريمة الخيانة الزوجية.
- الاعتراف
بدور السلطة التنفيذية في بناء الجريمة أي نوع من التفويض من ذلك مثلا حالة تجريم
مخالف القانون والأنظمة المتخذة لتنفيذه من ذلك مثلا المادة 335 من مدونة الشغل إذ
عاقب بغرامة من 2000 إلى 5000 درهم عن عدم إحداث مصلحة طبية للشغل مستقلة أو
مشتركة أو إحداثها خلافا للشروط المحددة من قبل السلطة الحكومية المكلفة بالشغل،
فالتنظيم هنا يكمل التشريع وهي تقنية مشتركة خاصة في القانون الجنائي الاقتصادية
والاجتماعية لعدة أسباب مع ضمانة شرعيتها وإن لا تعارض القانون الذي
أحال عليها تعارضا مع أحكامه أو أهدافه .
- تطور
لمعالجة جمود العقاب: وقد تم ذلك في اتجاه تفريدها بالنظر للجريمة والمجرم ومن
الوسائل المستعملة من هذا الباب: تحديد العقوبة بين حد أدنى و حد أقصى وترك
التقدير للقاضي - إيجاد عقوبات تقديرية- ظروف التخفيف- وقف التنفيذ- ظروف التشديد-
أعذار مخففة- أعذار معفية... وذلك كعلاج لمساوئ مبدأ المساواة في
العقاب الذي أكده بيكاريا من أجل محاربة تعسف القضاء في مجال الزجر إذ كان يختلف
حسب صفة المدان.
Commentaires
Enregistrer un commentaire