طمس معالم الجريمة و إتلاف الأدلة


إن التحريات المرتبطة بالبحث في مسرح الجريمة و استجماع الأدلة، هي تحريات تتطلب قدرا كبيرا من الكفاءة و النزاهة و الحياد.
و هذا يجعل أصابع الإشارة تتجه مباشرة إلى الجهات المكلفة بالبحث، و خاصة ضباط الشرطة و الدرك، الذين تقع عليهم مسؤولية كبرى في هذا المجال، و خاصة حينما يتعلق الأمر بالتلبس بالجرائم.
فحياد العناصر المكلفة بالبحث و اتصافها بالأمانة، يجعلها تستجمع كافة الأدلة، سواء كانت لصالح المتهم أو ضده، أما إذا غاب الحياد فإن كل الأدلة التي قد تكون لصالح المتهم يتم طمسها، و لا يتم الاحتفاظ إلا بأدلة الإثبات، أو العكس يتم التخلص من أدلة الإثبات و الاحتفاظ بأدلة النفي، و إذا كان هذا لا يحصل في جميع القضايا فهو حاصل بالتأكيد في بعضها.

 
و طمس معالم الجريمة يؤدي إما إلى إقبارها، أو على الأقل إلى تخفيف التكييف الجنائي الحقيقي الذي تستحقه. و هكذا قد يؤدي العبث بالأدلة إلى تغيير واقع جريمة قتل عمدية، إلى حادث سير نتج عنها قتل غير عمدي مثلا، و العديد من جرائم القتل لا يتم الكشف عنها إلا بعد إصرار ذوي حقوق المجني عليه، على كون الوفاة لم تكن طبيعية و مطالبتهم بتشريح الجثة الذي يكشف المستور.
و الواقع العملي يبرز كيف لا يلتزم بعض المكلفين بالبحث الجنائي بالحياد، و ينحازون إلى بعض الأطراف عن طريق توجيهه مثلا، لإثبات عدم حضوره في مسرح الجريمة أثناء ارتكابها من خلال الاستعانة بشهود جاهزين لقول أي شيء أو اصطناع أدلة، في حين يرفضون الاستماع إلى شهود الطرف الآخر، أو حجز أدلة معينة بعين المكان مفيدة في البحث، مما يجعل النيابة العامة تتدخل في كثير من الملفات لإرجاع التوازن للبحث القضائي.
بل إن طمس معالم الجريمة قد لا يكون متعمدا، و لكنه يقع لا محال بفعل الإهمال و التقصير، حينما تتثاقل أجهزة البحث عن التدخل في الوقت المناسب لضبط المجرم في حالة تلبس، و رغم استغراقه وقتا طويلا في ارتكاب جريمته، مما يؤدي إلى اندثار أي أثر يمكن أن يدل على مرتكب الجريمة.
و الغريب أن يخاطب النص التشريعي الجنائي عموم المغاربة في المادة 58 من قانون المسطرة الجنائية، بعدم تغيير حالة المكان الذي وقعت الجريمة تحت طائلة الغرامة المالية، بل و يتوعدهم بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات و غرامة قد تصل إلى 1200 درهم، في ما إذا كان القصد من محو الأثر أو إزالة الأشياء هو عرقلة سير العدالة.
في حين أن الحفاظ على سير العدالة يقتضي أفراد مادة مستقلة، و مخاطبة المكلفين بالبحث و جميع المتدخلين فيه بلغة جنائية صريحة و واضحة، تلزمهم بالحياد و النزاهة و الأمانة أثناء مباشرة التحريات و الأبحاث، لأن مصير الأدلة الحقيقي يكون بين أيديهم و صوب أعينهم و رهن مسامعهم.
و لا يغني عن ذلك ما نص عليه المشرع في الفصل 593 من القانون الجنائي، الذي جاء فيه بصيغة العموم مخاطبا: "يعاقب بالعقوبات المقررة في الفصل السابق حسب التفصيلات الموضحة به، من خمس سنوات إلى عشر، أو من سنتين إلى خمس سنوات، ما لم يكن فعله جريمة أشد من أتلف أو اختلس أو أخفى أو ستر أو حرف عن علم وثيقة عامة أو خاصة، من شأنها أن تسهل البحث عن الجنايات أو الجنح، أو كشف أدلتها أو عقاب مرتكبها".
مع الإشارة إلى أن هذا الفصل لا يتحدث إلا عن الوثائق المسهلة للبحث عن الجنايات أو الجنح، في حين أن الأمر هو أوسع من الوثائق . فالحماية الجنائية ينبغي أن تشمل الأدلة الجنائية بكافة أنواعها، سواء تعلق الأمر ببقع دم أو مني...أو بصمات بيولوجية أو جينية، أو أسلحة، أو رسائل هاتفية أو إلكترونية...
و الملاحظ أن المشرع اختار تشتيت النصوص الجنائية المتعلقة بحسن سير العدالة و عرقلة إجراءاتها، و لعل ذلك أحد الأسباب التي جعلت العدالة ببلادنا تائهة، متعثرة و معطوبة، فالأحرى بالمشرع الجنائي أن يجمع هذه النصوص في فرع واحد، حتي يسهل الرجوع إليها و الاحتماء بها من طرف كل المتضررين من عرقلة سير العدالة، الذي يمارس في الكثير مقرونا بسبق الإصرار و الترصد.

منقول عن يوسف وهابي: محام بهيئة الحديدة

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

القانون الجنائي الجزء2: أهم المدارس الجنائية

جريمة الإغتصاب المادة 486